صناعة المحترفين الدعوة الإسلامية على اختلاف مجالاتها لا تخلو من مزارع ينثر بذور الخير فى أرضها لعل نبتة منها تخرج، أو ساق يسقى الزروع ليمنع جفافها، أو عامل يدير عجلتها لتظل مقاومة للإنحدار الذى يراد لها. و لكل هذه الجهود فضل مشكور فى الإبقاء على نبض الدعوة الإسلامية رغم كل الطعنات و الأوجاع، و هذا الطور هو طور الصراع من أجل البقاء، و إن شئنا قلنا "طور المقاومة"! و يتبع هذا الطور "طور المسابقة"، و هو الطور الذى لا يقف فيه العمل الإسلامى موقف الصراع من أجل البقاء، بل يرتقي إلى تحقيق المشاريع و البرامج الإسلامية فى دنيا الناس. و الانتقال من طور المقاومة الى طور المسابقة لن يكون محض صدفة أو ضربة حظ، بل لابد له من محترفين قادرين على إبداع الاسترتيجيات و إنجاز الأهداف، و على الرغم من كون العمل الإسلامى يكتظ بالعاملين، إلا أنه يفتقر الى المحترفين من أصحاب البصيرة و العزيمة اللازمين لتحقيق الأنتقال.
و الاحتراف فى مجال الدعوة الإسلامية له مقومات لازمة لتحقيق سلامة بنيته و تمام أركانه، و هى فيما أرى: • الاحتراف الشرعي • الاحتراف الفكرى • الاحتراف الاستراتيجى • الاحتراف السياسي
و لكل منها تفصيل، و نحن هنا نستعرض بعض ما يتعلق بـ"الأحتراف الشرعي":
احتراف الشرعي
لمّا كان موضوع الدعوة الإسلامية مميزاً عن غيره من الدعوات بكونه مستفاد من الشرع الإسلامي و منضبط به، وجب على حاملى الدعوة من المحترفين أن يتقنوا الشريعة الإسلامية جوهراً و حدوداً، فبينما يكفى فى حق سائر العاملين أن يكون استيعابهم للشريعة إجمالياً شاملاً، فإن الإجمالية لا تليق فى حق المحترفين من غير تفصيل أو تدقيق، بل لابد لهم من فهم دقيق و استيعاب عميق و إتقان للجوهر و إحاطة بالحدود، و ذلك لأسباب: • أن بيئة العمل التى يفرض على أرباب العمل الإسلامي الخوض فيها بيئة معقدة، لا تخلو من النوازل و المسائل التي تعرض للعاملين و هى بالغة التعقيد بحكم العصر الذى ولدت فيه و الظروف التى تمخضت عنها. • أن مسيرة العاملين فيها من استنفاذ الوقت واستهلاك الجهد وتعرض للهلكة ما يوجب ترشيد هذه الأوقات و الجهود و بذلها فى مواطن البذل دون غيرها، و لما كانت مواطن البذل كثيرة و أبواب العمل غفيرة، وجب أن يميز للعاملين فى أي المواطن يبذلون و أى الأبواب يطرقون، فالخير كثير و العمر قصير، و المشروع الإسلامى يحتاج الى ترتيب الأولويات و توجيه التركيز و مراقبة الأداء ثم قياس الإنجازات و مراجعة الذات ثم معاودة الكر، و هذا كله لا يستقيم إلا مع إتقان تام للشريعة وإلمام كامل بها. • أن العلماء ؛ و هم مستند المشروع الإسلامى و ركيزته فى كل زمان و مكان؛ يحتاجون إلى من يجيد التلقى منهم و ترجمة اجتهاداتهم إلى مشاريع على أرض العمل الإسلامى، كما يحتاجون الى من يحسن رفع النوازل و المسائل اليهم لينبع حكمهم عن تصور شرعي منضبط، و لن يفلح مشروع اسلامى يسير بغير مظلة علمية و مركز عمليات من علماء متميزون يديرون دفته. و المحترفون هم حلقة الوصل بين هؤلاء العلماء و ساحة العمل، و لن تؤدى هذه الحلقة دورها إلا إذا تحقق لها فهم لغة العلماء و معرفة طرقهم و الخبرة بمسالكهم و الدراية بمقاصدهم. و الإتقان الذى يطلب من المحترفين ليس ذلك الذى يلزم العلماء من الخوض فى صنوف العلوم و مقارعة مسائلها، و إنما يرتجى لهم تطوير الملكة الشرعية بحيث يتكون عندهم حس شرعي يتمكن به صاحبه من إعمال أدوات النظر و الاستدلال فيما يعرض له من عوارض، كما يوفر له أيضاً الدراية بلغة العلماء و فهم منطلقاتهم و مقاصدهم. فإذا استحوذ هذا الحس على العامل المحترف، انطلق فى فضاء العمل الإسلامي بعقلية منضبطة لا تنتج إلا كل خير، فشأن هذا الحس شأن البوصلة التى توجه صاحبها فى ذاك الفضاء الفسيح، و شأنه كذلك شأن الميزان الذى تنضبط على كفتيه مقادير الأمور و موازينها. و هذه الملكة الشرعية و هذا الحس الشرعى لا يتكونان عشوائياً فى ثنايا عملية تربوية غير مستكملة الأركان و غير مصممة ابتدائاً لتطوير هذه الملكة، كما انهما لا يتكونان فى خضم معمعة العمل الإسلامى، بل قد يكون الإنشغال بالعمل و الانخلاط ببيئته سبب لطمس هذه الحاسة، و تكوين حاسة عملية تتمحور حول إنجاز المهمات غير عابئة بالانضباط و المئلات. و لكى تولد هذه الملكة و هذا الحس و يشتد عودهما، لا بد لهما من محاضن تربوية علمية مستوفية الأركان و مصممة خصيصاً لرعاية هذه الملكة وهذا الحس ودعم ولادتهما والقيام على رعايتهما. ورعاية هذه الملكة توجب على المحترف عدة أمور: • معايشة الوحى • العلم بأصول الفقه و القواعد الفقهية و مقاصد الشريعة • تمييز الثوابت و المتغيرات
و لكل منها تفصبل:
معايشة الوحى الوحى بفرعيه القرآن و السنة ينبع من مشكاة واحدة، وهما أصلان لما تفرع عنهما من أصناف العلوم، وما هذه المصنفات التى ذخرت بها المكتبة الإسلامية على مر التاريخ إلا وهى دائرة فى فلكيهما. وهذه المصنفات مهما ذخرت بالمنافع و الحكم إلا أنها تحتفظ بسمة بارزة فيها وهى كونها نتاج جهد بشرى، والجهد البشرى لا ينفك عن بيئة و عقلية صاحبه، بل إنه لا ينفك كذلك عن ظروف و ملابسات أحاطت به، فضلاً عن أنه غير منزه عن السهو و الخطأ، و هذا على خلاف الوحى الذي تنزه عن كل المؤثرات، و جاء صافياً محكماً مجرداً عن الزمان و المكان كما أراده الله عز و جل، و على هذا فإن الوحى يبقى هو قائد مسيرة العمل الإسلامى مهما تباينت الأزمان و الأماكن.
...يتبع